الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة البوز الاعلامي: بين التهريج والتسطيح والرداءة

نشر في  12 أفريل 2017  (14:19)

الثابت أنه لا يمكننا بأي شكل من الأشكال اطلاق احكام اخلاقوية على أي مادة اعلامية، والثابت أيضا أننا مستعدون لمساندة أي اعلامي اذا تعرض الى هجوم أو مساءلة أو تتبع قانوني، لكن ماذا لو تعلق الأمر باعلام يحاول قدر المستطاع وبكل السبل المتاحة له  نشر التفسخ الاخلاقي، والخراب القيمي والعائلي، والهاء الشعب عن قضاياه الحقيقية وشواغله، وتسليط الضوء على كل ماهو تهريج واثارة و«بوز»  بحثا عن جلب اكبر نسبة من المشاهدين أو المستمعين أو القراء، هنا لا بد من الوقوف ورفع الورقة الحمراء في وجه كل هذه التجاوزات التي لا تسيء فقط  لبعض «الاعلاميين» ووسائل اعلامية بعينها  بل لقطاع برمته .. 
من جهة أخرى لا بدّ من طرح عديد نقاط الاستفهام حول السيكزوفرانيا التي يعاني منها عدد لا بأس به من الشعب التونسي، فمن جهة تجده لا يتردد في نعت وسائل الاعلام دون استثناء «باعلام العار»، ومن جهة أخرى نجد نفس المنتقدين يقبلون و بنهم كبير على مشاهدة كل البرامج «التهريجية» ثم يسارعون لنقدها وشتم القناة بمن فيها، او تجدهم ينتقدون مواقع الكترونية بعينها، ثم وبقدرة قادر نجد أن تلك المواقع هي الأكثر انتشارا ومقالاتها الأكثر قراءة، ونفس الأمر بالنسبة للاذاعات وبنسبة قليلة الصحف اليومية والأسبوعية، حيث مازالت الصحافة المكتوبة محافظة على ثقة بعض القراء . 
وهنا بامكاننا طرح اشكالية عميقة: من نلوم ؟؟ هل نلوم المؤسسة الاعلامية التي تحقق اعلى نسب مشاهدة واستماعا وقراءة؟ هل نلومها على نجاحها؟ أم نوجه اللّوم الى جزء من هذا الشعب الذي يقبل على «الرداءة» ثم يوجه سهامه اليها؟ معادلة صعبة ومسؤولية مشتركة تتحملها بعض وسائل الاعلام التي بات «البوز» اقصى طموحها والمتقبل الذي لم يتسطع التخلي عن ازدواجيته.. 
لا نحبّك ولا نصبر عليك
وعلى سبيل الذكر لا الحصر أو التشفي، عجت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا بحادثة شجار «سطحي» نشب بين الزميل الاعلامي نوفل الورتاني والزميلة بية الزردي حول حقيقة عمرها، مسألة ثانوية قد لا تستحق الوقوف عندها ، وايلاءها ادنى اهمية لأن معرفة سن الزردي لا نعتقد أنه سيحل المشاكل الاقتصادية الكبرى التي تعاني منها البلاد، أو يفض الاعتصامات والاضرابات بكل من تطاوين والكاف .. قد يكون الورتاني اتخذ خطا تحريريا خاصا به لا يمكننا تقييمه او الحكم عليه، لأنه وببساطة قد يجيبنا اجابة  تسكتنا وتفحمنا وهي أن برنامجه الأكثر مشاهدة ويحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، لكن هنا وبعيدا عن سؤاله «الفلسفي» لبية الزردي ماالذي يدفع عامة الشعب ونخبه أيضا الى طرح هذا الموضوع للنقاش والحديث فيه لأيام متتالية ؟ صدقا يعجز العقل عن ايجاد جواب لكل هذه التناقضات، نعم انه «البوز الاعلامي». 
نفس الأمر بالنسبة الى البرامج الاجتماعية التي تلاقي اقبالا كبيرا على غرار برنامجي الاخوين «الشابي»، فالجميع يكاد يتفق حول كون مضمون هذه البرامج قد يشجّع على التفسخ العائلي والانحطاط الاخلاقي، لما تتضمّنه بعض الحالات من جرأة في الطرح قد تصل حد الوقاحة، لكن وكما يقال «لا نحبك ولا نصبر عليك»، نشاهد هذه البرامج وندقق في كل تفاصيلها، ونستمتع سرا بالاستماع الى «فضائح» البعض لكن في نفس الوقت نرفضها علنا وننتقدها ونصفها بالميوعة والابتذال والانحطاط .. 
وبالنسبة الى المواقع الالكترونية لن نخفي سرا اذا اعلنا أن أكثر العناوين ابتذالا وسطحية واستسهالا هي التي تبدأ بـ«فظيع» و«غريب» و«خاص جدا» و«حصري» و«مفاجئة مدوية يفجرها فلان» و«كل التفاصيل» و«ما ننفرد بنشره» «وهذا ما صرح به فلان وما كشفه فلتان» .. فهذه العناوين لا تستحق منا ادنى مجهود بل هي عناوين مكررة و«تافهة» ان صح التعبير، لكن هي ذات العناوين التي نجدها ضمن قائمة المقالات الأكثر قراءة في المقابل قد لا تجد مقالات تحليلية وتحقيقات استقصائية نفس الاقبال .. فمن نلوم هنا؟؟ هل نلوم المؤسسة التي تبحث عن احتلال ترتيب متقدم للظفر بالاشهار ام نلوم القارئ الذي يشجع بطريقة مباشرة هذه النوعية من الصحافة ؟؟ 
إعلام بديل
هل نحن فعلا في حاجة الى اعلام بديل؟ وهل سيجد هذا الاعلام نفس الاقبال؟ ولماذا لا تنجح القنوات التي لا تلهث وراء البوز وتسعى الى تقديم مادة اعلامية تحترم العقل البشري، بل سرعان ما تعلن افلاسها وتغلق ابوابها ؟؟ معادلة وكما قلنا آنفا في غاية التعقيد عمّاذا نبحث ؟؟ عن الرقي بعقل المواطن أم النزول اليه وتوفير ما يستحقه دون اي اجتهاد ؟ 
قد لا يختلف اثنان في كون بعض المؤسسات الاعلامية في تونس في حاجة الى عديد المراجعات وكم نحن في حاجة الى حوار وطني حول الاعلام اهدافه وغاياته... لأن جزءا من اعلام اليوم ينشر الرداءة حيثما حلّ ويروج لقصص الجريمة والاغتصاب والشذوذ والعقوق والخيانة والابتذال والتفاهة وقلة الذوق على جميع المستويات لا لشيء سوى لنيل الجزء الاكبر من كعكة الاشهار، فهل هذا هو هدف الاعلام؟ الا يجب ان نقف جميعا وقفة تأمل ونوجه نقدا ذاتيا لانفسنا قبل توجيهه الى المتلقي.. ونفكر مليا في كيفية احداث ثورة في هذا المجال والرقي بالذوق العام وتحقيق اهداف الرسالة النبيلة لهذا القطاع؟
واقع مرير لقطاع ينخره «البوز» ويتحكم في بعضه المال الفاسد من جهة والتمويلات السياسية من جهة اخرى وان وجدنا بعض المؤسسات تنأى بنفسها عن هذه التجاذبات كن على يقين بأنها على أبواب الافلاس، فكيف نلوم زيدا او عمرو وغيرهما عن سعيهم وراء الربح المادي خشية افلاس مؤسساتهم وعودتهم الى نقطة الصفر .. قد يرى البعض ان الحل يكمن في المرفق العمومي لكن الواقع الحالي يؤكد ان هذا المرفق يرزخ هو الآخر تحت وطأة عديد المشاكل الداخلية، مما يحول دون تقديمه مادة اعلامية ترتقي الى انتظارات المتلقي، دون التطرق الى مسألة في غاية الخطورة وهي التدخل السياسي في هذا المرفق الذي بات جليا  للعيان خاصة في الآونة الأخيرة .. 
موضوع شائك ويطول الحديث فيه، فحتى من ناحية البرامج السياسية نكاد نجزم بعدم وجود برنامج سياسي واحد في القنوات التونسية برمتها يلتزم باخلاقيات المهنة وقواعدها، حيث تقتصر هذه البرامج على استضافة بعض الوجوه السياسية التي لا تحاول صناعة الرأي العام قدر بحثها هي الاخرى على الظهور المجاني المسقط والسفسطة المبالغ فيها وتلميع صورة حزبها او الجهة المنتمية اليها، وعادة ما يكون النقاش أجوف ولا يدر بالنفع لا على البرنامج ولا على المشاهد.
ختاما، وبعد 6 سنوات من حرب «البوز»، والنقاشات البيزنطية والثلب والفتنة والرداءة وتصفية الحسابات والاخبار الصفراء  الم يحن الوقت لاستغلال الحرية التي منحتنا اياها الثورة والتفكير في اعلام بديل بعيدا عن النسب  والارقام اعلام  قادر على التأثير لا فقط على المتلقي بل ايضا على المشهد السياسي والاجتماعي؟ حلم مشروع وليس مستحيلا .

سنــاء الماجري